أخبار تشادثقافة وتعليم
منطقة حوض بحيرة تشاد ودورها في نشر الثقافة الإسلامية والعربية
اصطلح المؤرّخون على تسمية المنطقة التي تقع حول بحيرة تشاد باسم «السودان الأوسط»، حيث عُرفت بأنها ملتقى طرق إفريقيا الاستوائية.
وهي المنطقة التي انصهرت فيها شعوب وفدت إليها من شمال بلاد السودان وشرقه، ومنها انتشروا إلى الجنوب الغربي والجنوب الشرقي لإفريقيا.
وكانت منطقة بحيرة تشاد بحكم موقعها الإقليمي قد جذبت إليها العديد من القبائل والمجموعات المختلفة من السكان، سواء كانوا من الإفريقيين، أو العرب من الشرق أو الشمال، أو من المناطق المتصلة التي تحيط بها، وقد اختلط العرب بغيرهم عن طريق الزواج والمصاهرة, وكان نتاج ذلك مجموعات بشرية, بقيت في أماكنها تدافع عن كيانها أمام الغزاة, فهم بطبيعة الحال أكثر بداوة، وأكثر ميلاً للحرب وخوض غمارها من أجل السيطرة على ذلك الإقليم الغني بالمرعى (1).
أهمية منطقة حوض بحيرة تشاد:
منطقة حوض بحيرة تشاد مركز مهم لالتقاء طرق القوافل المارة عبر إفريقيا، وهو ما جعلها مركز حياة ونشاط، فضلاً عن كونها منطقة خصبة اجتذبت إليها كثيراً من العناصر القوية، بالإضافة إلى ذلك طبيعة المنطقة من حيث خلوِّها من العوائق الطبيعية التي تحول دون تسيير القوافل منها وإليها، وقد ساعد على استقرار كثير من المجموعات البشرية اشتغالها بالزراعة، بجانب المجموعات التي استمرت على حرفتها الأولى، وهي المرعى (2).
الهجرات العربية إلى جنوب الصحراء:
لا خلاف حول دور منطقة بحيرة تشاد (كانم) في استيعاب العديد من الهجرات العربية الأولى القادمة عبر شبه جزيرة سيناء، حتى غدت المنطقة مستودعاً لهذه الهجرات العربية ومركزها؛ بعد مصدرها الطبيعي الأول في الجزيرة العربية ثم مصر، حيث تسربت القوافل العربية مهاجرة منها جنوباً عن طريق النوبة، ومن ثم «كانم» حول بحيرة تشاد، وغرباً عبر شمال إفريقيا إلى «فزان» و «كوار» بالقوافل، وصولاً إلى منطقة بحيرة تشاد، وقديماً كانت هناك هجرات لأبناء «حمير»، من اليمن إلى إفريقيا، قبل ظهور المسيحية بحوالي ستة قرون من الزمان بعد انهيار «سدّ مأرب».
ولم تتم ظاهرة الهجرة العربية في سنة بعينها أو سنوات محدّدة، بل استمرت لحقب زمنية استغرقت وقتاً طويلاً، وكانت الموجات المهاجرة من هذه القبائل العربية تصل مصر أولاً عن طريق السويس، ثم تتجه أفواج منها نحو الجنوب، ثم تستقر في مناطق عديدة في بلاد النوبة وبقية أنحاء السودان، حتى تصل إلى حوض بحيرة تشاد، سواء شرق البحيرة أو غربها أو جنوبها (3).
وسلكت هذه الهجرات طريقها من منطقة وسط البحر الأحمر حتى وصلت إلى وسط القارة الإفريقية حول بحيرة تشاد، وأحياناً كانت هناك هجرات واسعة من الشمال الإفريقي عبر الطريق الشرقي من «طرابلس» و «فزان» و «كوار»، ثم «بلما» فـ «تشاد» (4).
تمّت هذه الهجرات على فترات متفاوتة، وقد وصل بعضها قبل الميلاد – كما سبق -، وأصبحت «كانم» تستوعب الهجرات العربية حتى مطلع القرن العشرين، وبخاصة هجرات الليبيين، وكانت هجرات الليبيين إلى تشاد على ثلاث مراحل رئيسة، حدثت جميعها بين منتصف القرن التاسع عشر والعقد الثالث من القرن العشرين، حيث كانت الهجرة الأولى في عام 1842م، ومعظم المهاجرين من قبيلة أولاد سليمان.
أما الهجرة الثانية؛ فكانت في عام 1861م، وشملت عدة قبائل، منها قبيلة المغاربة.
وأما الهجرة الثالثة؛ فقد شملت قبائل عديدة، منها «ورفلة ، فزان ، قذاذفة»، وكانت في الفترة من 1928م إلى 1930م (5)، وأصبحت «تشاد» موطناً صالحاً تستوعب المهاجرين من كلّ أنحاء العالم قديماً وحديثاً.
ولا شك أن هذه الهجرات والحركات البشرية كان لها أعظم الأثر في تعمير منطقة بحيرة تشاد وغرب القارة الإفريقية، وكان لها أثرها المباشر والقوي والفعّال في ظهور حضارة إسلامية راقية قامت على أكتاف تلك العناصر المهاجرة، كما كانت هجرة القبائل العربية إلى حوض بحيرة تشاد أكبر دليل على تواصل الجذور التاريخية للغة العربية في بلاد «كانم»، بل إن هذه الهجرات ارتبطت مع بلاد حوض بحيرة تشاد بروابط قوية واتصالات دائمة منذ قديم الزمان.
وهكذا تميّز السودان الأوسط (تشاد) بموقع فريد، التقت فيه خطوط القوافل، وكان بذلك للإقليم دوره الخاص على طرق القوافل التي تربط بين داخل القارة الإفريقية وساحلها الشمالي.
ويمكن القول بأن تاريخ منطقة بحيرة تشاد والمناطق المحيطة بها بدأ يظهر بوضوح من جراء تلك الهجرات العربية التي جاءت بالإسلام والحضارة الإسلامية الزاخرة، كما أن الممالك والإمارات الإسلامية كان لها شأن عظيم في تسيير دفّة الأمور في تلك المنطقة في العصور الوسطى (6).
كما نرى أن هذه المنطقة تمثّل البوابة الرئيسة (في القارة الإفريقية) التي انطلقت منها القبائل المهاجرة لأجل نشر الدعوة الإسلامية واللغة العربية، وطلباً للرزق والمرعى حيث الأراضي الواسعة الخصبة والمراعي الغنية والمياه المتوفرة، أو للقيام بأعمال التجارة ونقل السلع التجارية منها وإليها.
طرق هذه الهجرات:
لقد سلكت القبائل العربية المهاجرة من أوطانها، على تعدد أنسابها وكثرة بطونها، إلى حوض بحيرة تشاد ثلاثة طرق رئيسة، وهذه الطرق بحسب الاتجاهات هي:
أ – الاتجاه الشرقي: وهو طريق يربطها بالسودان ووادي النيل، فيهبط المسافرون عن طريق درب الأربعين، وسُمّي بذلك لأن المسافر يقطع هذا الدرب في أربعين يوماً، لتصل القافلة بعد ذلك إلى كردفان، ومن ثم إلى دارفور، ومن ثم إلى منطقة بحيرة تشاد في بلاد «كانم».
ب – الاتجاه الشمالي الشرقي: وهذ الطريق يربطها بمصر عبر طرابلس إلى إقليم «فزان»، وبعدها تمر القوافل بمنطقة تُسمّى «كوار»، وتُسمّى عند الفرنسيين «دهليز الواحات»، ومن ثم تصل القافلة إلى بلاد «كانم»، ومنها تتجه إلى حيث شاءت من بلاد إفريقيا المدارية والاستوائية، ويحتل إقليما «فزان ، وكوار» مكانة مهمّة بالنسبة لتاريخ إفريقيا، فهما يكوّنان معاً الطريق الأوسط الذي كان الناس يعبرونه بواسطة الصحراء الكبرى (7).
ج – الاتجاه الشمالي: طريق الدروب الصحراوية التي تمتد من الشمال إلى الجنوب، وتربط بين بلاد السودان الغربي, وهو طريق ساحلي يصل بين المحيط الأطلنطي ونهر السنغال؛ إذ أن سكان الساحل الشمالي ظلوا على اتصال وثيق بالسكان جنوب الصحراء منذ الفتح الإسلامي وقبله، وكان تأثير الفتح من الشمال قوياً وواضحاً (8).
لقد استطاع الإسلام أن يجد طريقه إلى إفريقيا عبر هذه المنابع الثلاثة، واستطاع بقوته الذاتية وفضائله أن يجد طريقه عبر الصحراء، ويصل إلى أهلها، ويدخل قلوبهم شيئاً فشيئاً.
دخول الإسلام في مملكة كانم:
لقد عاشت إفريقيا قبل الإسلام منقسمة إلى قسمين، وكأنهما عالَمان لا يعرف الواحد منهما الآخر، وهما:
أ – إفريقيا شمالي الصحراء الكبرى.
ب – إفريقيا المدارية والاستوائية جنوبي الصحراء الكبرى.
إلا أن الإسلام وصل ما بين القسمين، بل وصل بين كثير من أقطار الأرض، فقد سلك في انتشاره في الأرض مسالك شتى، ودخل إلى القلوب من مداخل كثيرة، فما كانت الفتوح إلا إحدى وسائله لفتح الطريق أمام الدين ليدخل إلى القلوب، أما المدخل الأكبر فكان الكلمة الطيبة والحكمة البالغة والموعظة الحسنة، يحملها المسلم المؤمن إلى غير المؤمن، ويبين له فضائل الإسلام، وما يفتح لمعتنقه من أبواب الخير والأمل واطمئنان النفس، فيستجيب الرجل للإسلام، ويدخل فيه عن طيب نفس، وعن أمل في عظيم رحمة الله عز وجل وعريض ثوابه (9)، كان ذلك من أقوى أسباب انتشار الإسلام خلال القرن الأول.
وقد دخل الإسلام إلى حوض بحيرة تشاد (كانم) في زمن مبكّر، مقبلاً من إقليم «فزان» الذي فتحه المسلمون بقيادة عقبة بن نافع بعد فتح إفريقيا الشمالية، وفي عام 46هـ / 666م فتح عقـبة هذه البلاد وثبّت أقدام الإسلام فيها، ثم انحدر جنوباً وأدخل في رحاب الإسلام إقليم «كوار»، وهو إقليم يتكون من سلسلة من الواحات الصغيرة، تمتد من الشمال إلى الجنوب حتى تصل إلى إقليم تشاد (10).
أقوال المؤرّخين في دخول الإسلام إلى المنطقة:
– أورد شاطر بصيلي: في كتابه (تاريخ وحضارات السودان الشرقي والأوسط) أن عقبة بن نافع دخل في عام 666م وسط الصحراء متجهاً إلى الجنوب، ووصل إلى «كوار» في «التبستي» الواقعة شمال منطقة حوض بحيرة تشاد، وعاد من هناك لأنه لم يجد خبيراً يرشده إلى الطريق نحو الجنوب، وكانت المسافة التي تفصل بينه وبين طريق السافنا قصيرة نسبياً (11).
– وذكر اليعقوبي: أن وراء زويلة… مدينة يقال لها «كوار»، بها قوم من المسلمين من سائر الأحياء (12).
– وذهب الدمشقي: إلى قدم الإسلام في منطقة «كانم»، حيث يقول: «بلد كانم متصل ببلاد الحبشة… فهذه البلاد بلغها الإسلام وجاسوا خلالها» (13).
– ويُثبت ابن بطوطة: وصول الإسلام إلى «كانم» قبل أي منطقة أخرى من السودان الأوسط جنوبي الصحراء، بقوله: «وإلى بلاد برنو… وهي على مسيرة أربعين يوماً… وأهلها مسلمون، لهم ملك اسمه إدريس (14)، لا يظهر للناس ولا يكلمهم إلا من وراء الحجاب» (15).
– وذهب ابن خلدون: في تثبيت رسوخ الإسلام في مملكة كانم، حيث يقول: «ويليهم الكانم، وهم خلق عظيم، والإسلام غالب عليهم ومدينتهم «جيمي» » (16).
– ويحذو القلقشندي: حذو سابقيه في القول بوصول الإسلام إلى «كانم»، والتزامهم به في وقت مبكّر، فيقول: «بلاد الكانم؛ وهم مسلمون، والغالب على ألوانهم سود، وبلادهم بين إفريقيا وبرقة»، ثم يستطرد قائلاً: «وسلطان هذه البلاد رجل مسلم»، ثم يذكر أيضاً أن «سلطان الكانم من بيت قديم في الإسلام» (17).
وأول من اعتنق الإسلام من سلاطين «كانم» السلطان «أومي جلمي» (1086م – 1097م)، وإليه يعود الفضل في إقامة الدولة على أسس متينة من القيم الأخلاقية والقوانين المستمدة من القرآن والسنّة المحمّدية، وكان أول من جعل للدولة قوانين تحدّد سلطة الملك، وتنظّم العلاقة بين الحكام والرعية، وقام بفصل السلطات الرقابية عن السلطات التنفيذية، وأولى العلماء حقَّ شغلِ المناصب التعليمية والقضائية، وجعل منهم مستشارين وكتبة ومؤدبين لأبناء الحكام (18).
وتلاه في الحكم ابنه السلطان «دونامة الأول» الذي حكم البلاد في الفترة من عامي (492هـ – 542هـ / 1098م – 1151م)، وهو ثاني سلطان مسلم في دولة كانم، وقد واصل سيرة أبيه في نشر الإسلام وتعميق ثقافته بين الرعية، وتوسيع رقعة الدولة في داخل القارة الفريقية، فقام بغارات متعاقبة على بلاد «النيجر» و «الهوسا» و إقليم «شاري باقرمي» الواقعة جنوبي بحيرة تشاد (19)، وازداد الداخلون في الإسلام في عهده، وقد اشتهر هذا السلطان بتقواه والتمسك بالدين، وأدى فريضة الحج عدة مرات (20).
كما يُعَدّ السلطان «إدريس ألوما» (1570 – 1603م) من أعظم سلاطين «كانم – برنو» الذين قاموا بنشر الإسلام في بلاد السودان الأوسط، وكان شديد التمسك بالكتاب والسنّة، شديد الكراهية لأهل البدعة والمحدثات، ومن أعماله الاعتناء بالمساجد، كما اعتنى بالأيتام والأرامل، وأولاهم بالغ الرعاية، ووجّه اهتماماً بالغاً بالإصلاح في الداخل والخارج، مع التمسك بالدين والاستقامة في السلوك (21).
نظريات مخالفة:
وهناك نظريات مخالفة لهذه النظرية، ومنها نظرية تقول بانتشار الإسلام في القرن الثامن، وأخرى في القرن الحادي عشر، وهي وجهات نظر لا تقوم على دليل قوي يُعتمد عليه، فهذه النظريات مبناها على معلومات تتعلق بازدهار الإسلام في هذه المنطقة، وعلى وجه الخصوص عندما أعلن ملك البلاد «أومي جلمي» عام 1085م أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة الكانمية.
كما أن أغلب أصحاب هذه النظريات يعتمدون على المصادر الغربية دون الرجوع إلى العربية، ولكن الآن توفرت للجميع المعلومات عن انتشار الإسلام في القرن السابع الميلادي.
ويؤكد «العبودي» في كتابه (المستفاد من السفر إلى تشاد)، فيقول: «ورغم أن تاريخ انتشار الحضارة الإسلامية حول بحيرة تشاد هو كما قرّره الباحثون يرجع إلى القرن الأول الهجري / السابع الميلادي، إلا أن هناك نظرية شائعة تقول بانتشارها في القرن الحادي عشر، وهذه النظرية معتمدة على معلومات عن ازدهار الحضارة الإسلامية في هذه المنطقة» (22)، وليس على دخول الإسلام إليها وانتشار حضارته فيها!
وعليه؛ تكاد المصادر العربية والأجنبية تتفق على أن أول بلد من بلاد السودان الأوسط يدخله الإسلام هو «كانم – برنو»، ويُتّفق أيضاً على وجود التأثير الإسلامي في مناطق بحيرة تشاد مع حلول عام 46هـ / 666م، وهي الفترة التي وصلت طلائع المسلمين فيها إلى واحة «كوار».
لقد كانت جميع المعارف تستوعب بواسطة اللغة العربية، وأصبحت هي لغة الكتابة الرسمية والثقافة الإسلامية، وصاحب هذا الانتشار للإسلام واللغة العربية انتشار التعليم العربي والإسلامي، وهو ما سنتحدث عنه في الفقرة التالية.
الثقافة العربية والتعليم الإسلامي:
دخل الإسلام وانتشر في بلاد «كانم»، واعتنقه سلاطينها، وقامت دولتهم على أسّسه السليمة، ومن هنا اهتموا بالعلم والمعرفة، سواء في المجالات الدينية أو الدنيوية، لأن الدين الإسلامي اهتم بكلّ ما يمكن أن يُسعد الإنسانية في حياتها الدنيا، ويضمن لها الفوز في حياة الآخرة، وكانت الدولة الكانمية الناشئة تشجّع العلم وتطلب العلماء، فاتخذ سلاطينها وأمراؤها من العلماء مربين لأبنائهم، كما أسندوا إليهم مناصب القضاء والإمامة والتدريس في مساجد السلاطين وكتبة الدواوين (23)، فصار على كلّ من يتطلع إلى العلا أن يطلب العلم، وربما رحلوا إلى أماكن أخرى لطلب العلم، وخصوصاً إلى مصر التي تربطها أواصر الود والمحبة مع سلاطين «كانم».
وقد ازدادت هذه العلاقات بعد بناء مدرسة «الكانمية» في مصر في «الفسطاط»، والتي تُسمّى مدرسة «ابن رشيق» (24)، يقول المقريزي: «مدرسة ابن رشيق، هذه المدرسة للمالكية، وهي بخط حمام الريش من مدينة مصر، كان الكانم من طوائف «التكرور»، ولما وصلوا إلى مصر في سنة بضع وأربعين وستمائة قاصدين الحج دفعوا للقاضي علم الدين ابن رشيق مالاً وبناها به، وكانوا يبعثون إليها في غالب السنين المال» (25).
وذكر القلقشندي أن أهل «كانم» «بنوا مدرسة للمالكية ينزل بها وفودهم» (26)، وتُسمّى هذه الدار بـ «رواق كانم»، وكان الطلاب في بادئ أمرهم في الأزهر يضمّهم رواق واحد، حين كان عددهم محدوداً – على ما يبدو –، فلمّا ارتفعت مكانة الأزهر، وسار حديث الناس في شهرة علمائه وسمعة خريجيه، كثر عدد الوافدين من بلاد «كانم»، فنظّم المسؤولون لهم داراً لسكن الطلاب والحجّاج، عُرف باسم «رواق كانم»، وقد ضمّ هذا الرواق العديد من طلاب وسط إفريقيا وغربها (27).
والجدير بالذكر أن مدرسة «ابن رشيق» في مصر ليست هي صرح التعليم الوحيد الذي قام بتشييده أهل «كانم» (تشاد)، فإن التجار القادمين من غرب إفريقيا وبلاد «كانم» قد ساهموا بنصيب كبير في إنشاء المدن الساحلية على شواطئ البحر الأحمر، مثل: «سواكن» و «مصوع»، وأصبحت هذه المدن الساحلية مراكز مهمة لنشر الإسلام، إذ قام أثرياء «كانم – برنو» على هذه المدن التجارية، وتشجيع الطلاب على دراسة العلوم الإسلامية (28).
وكلّ هذه المنشآت العلمية كانت في عصر السلطان «دونامة ديلامي» (1221م – 1259م) (29).
وقد عاد طلاب «كانم» إلى بلادهم مزودين بالعلوم الشرعية، وجعلوا مساجدهم مدارس محاكية للمؤسسات التي تعلّموا فيها من حيث أساليب التعليم والمناهج العلمية، وقد قام سلاطين «كانم» بمنحهم مكانة مرموقة في مجتمعهم، كما أحاطوا أنفسهم بعدد من هؤلاء العلماء يسترشدون بمشورتهم، ويكتبون لهم في دواوين رسائلهم (30).
ولا شك أن هذا التشجيع من سلاطين «كانم» لطلاب العلم، والارتفاق في رحلاتهم إلى الحج بالعلماء، والتزود عند عودتهم بما يستطيعون حمله من كتب العلم، له آثاره، ومنها التقاء هؤلاء العلماء والمرافقين بحكام مصر، ومشاهدة مجالسهم، والوقوف على اهتماماتهم.
كما أصبح المسلمون من أهل «كانم» حفظة للقرآن الكريم، يتلونه في صلواتهم، ويستمتعون بحلاوة تركيبه ووقع كلماته على القلب والعقل، وأصبح بذلك المسلمون أول من يتعلم اللغة العربية، وكان ذلك من أقوى أسباب القياس الحضاري الذي حدث من جانب السودان الأوسط (كانم) مع العالم الإسلامي في شتى الوجوه، إذ أن اللغة العربية بدأت تأخذ مكانتها حتى أصبحت لغة جديدة لمجتمع جديد، وقد زادها الزمن رسوخاً بمروره، وزاد النشاط العلمي والفكري في بلاد «كانم».
ويُعَد السلطان «دونامة ديلامي» من أعظم سلاطين «كانم» الذين تقدّموا، والذي بلغت الدولة في عهده أقصى اتساع لها (31)، واكتسب كثيراً من مظاهر الرقي والتقدّم والثقافة والتعليم، والازدهار الحضاري؛ وقد كان سلاطين «كانم» يقيمون المساجد داخل قصورهم للصلاة والتعليم، ولا يدعون فرصة لاستقدام مشاهير العلماء إلا استغلوها حتى يستفيد القصر والحاشية والنساء اللاتي كنّ يحضرن تلك المجالس من وراء الحجاب (32)، وتكون العديد من المناظرات العلمية داخل صالات السلطان.
وقد زخر تاريخ الإسلام في بلاد «كانم» (تشاد) بكوكبة من العلماء وصفوة الدعاة، ومن الذين اشتهروا بالعلم والصلاح الشيخ العالم: صبيح بن عبد الله التكروري الكلوتاتي الحراس، تلقّى العلوم على يد الشيخ النجيب، وعلى يد الشيخ شمس الدين ابن العماد، ثم ذهب إلى دمشق، ودرس بها العلوم اللغوية، وكان له نشاط علمي مشهود في مصر، توفي في القاهرة (731 هـ / 1325م) (33).
ومنهم العالم الجليل عبد الملك بن علي الكانمي، درس على الشيخ النجيب، وقام بالتدريس في مصر سنة (720 هـ / 1318م)، وكان له حلقة في بيته يحضرها تلاميذه ومحبّوه (34)، وكذلك من أبناء «كانم» الذين برزوا في المجتمع المصري، وكان لهم أتباع وتلاميذ، الشيخ راشد بن عبد الله المتوفى سنة (796هـ / 1394م) (35)، كما تُوفّي التاجر: نور الدين علي بن عنان في شوال سنة 789هـ، وكان من أعيان تجار الكارم (كانم) بمصر، خلّف مالاً كثيراً (36)، وكلّ هذا يدل على النشاط التعليمي والاقتصادي في «كانم».
ويبدوا لنا جلياً أن علماء «كانم» قد تفرقوا في مختلف البلاد، حيث استفادوا وأفادوا، وصارت لهم حلقات علمية عامرة، بل أنشؤوا مدارس ومعاهد في السودان بوادي النيل (37)، وهذا يكفي دليلاً على ما كانت تتمتع به «كانم» من ازدهار ثقافي وعلمي، يقول المستشرق «بوركهات» : («إن جميع الحجّاج الذين يفدون إلى السودان من بلاد «كانم» على علم بالقراءة والكتابة» ) (38)؛ وهو ما يؤكد لنا انتشار الثقافة الإسلامية في بلاد «كانم» على نطاق واسع، ومن ثم فإن تأثيرها في المجتمع السوداني كان ظاهراً في حلقات العلماء الذين يجتمع الناس حولهم (39).
وقد استمر الوضع الثقافي والحضاري والتعليمي على هذا المنوال في بلاد «كانم» حتى فترة ضعفها، بل استمر الوضع على هذا النمط حتى القرن التاسع عشر، بل حتى القرن العشرين، وحظي بسمعة طيبة في مجال التعليم، يقول الرحالة «غير هارد رولفس»: «وقد حصلت بلاد السودان «كانم» على سمعة طيبة، وسمعة المدرسة العليا الممتازة، وكان عدد طلابها في ظل حكم الشيخ «محمد الأمين الكانمي» حوالي (2000 – 3000) طالب من الشباب الذين يتراوح أعمارهم بين 20 – 25 سنة»، وذكر أن دراستهم متمثلة في حفظ القرآن الكريم والقراءة والكتابة ودراسة اللغة العربية، وكان ذلك في عام 1814م (40)، وكان الطلاب يعيشون على الصدقات، وعلى هبات الأشراف الذين يتعلّم أبناؤهم فيها (41).
ويُعَدّ هذا الرقم رقماً قياسياً في تلك الفترة التاريخية، ولا يوجد هذا العدد من الطلاب إلا في الجامعات العريقة، كما يوضّح هذا العدد عناية سلاطين «كانم» بالعلم والعلماء وطلاب العلم.
وفي مطلع القرن العشرين ظهرت عدة مدارس وقفت سداً منيعاً أمام مسخ اللغة العربية وتشويه الحضارة العربية من قبل الاستعمار الفرنسي الذي هاجم المنطقة محاولاً ترسيخ ثقافته فيها، فارضاً لغته على المواطنين!
ويشرف على التعليم في هذه المدارس ويقوم به مجموعات من العلماء والمتخصصين؛ وهذه المدارس هي:
أ – مدرسة بئر العلالية: أسّسها الشيخ البراني المساعدي، وقد وقفت هذه المدرسة أو الزاوية بشيخها الوقور سداً منيعاً ضد القوات الفرنسية لمدة عام (1900 – 1901م).
ب – مدرسة قورو في شمال تشاد: أسّسها محمد السني، ووقف يدافع عن المنطقة ضد الفرنسيين الذين لم يستطيعوا اقتحامها إلاّ في عام 1913م.
ج – مدرسة فايا: أشرف على إدارتها الشيخ المهدي السنّي، وفي هذه المدرسة جمع طلاباً من مختلف قبائل المنطقة، ووقف مجاهداً في سبيل الله ضد الغزاة الفرنسيين الذين استولوا على «فايا» في شهر 12/1913م (42).
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أن هذه المدارس كانت عبارة عن زوايا أقامها السنوسيون في تشاد، وساهمت مساهمة فاعلة في تنشيط الدعوة خلال تلك الفترة من القرن العشرين، فأصبحت منطقة بحيرة تشاد مصدراً من مصادر الإشعاع للحضارة الإسلامية في السودان الأوسط.
وقد اعترف «محمد بيلو» بتمسك الكانميين بالشريعة، ومستوى حفظهم للقرآن الكريم والعلوم الإسلامية واللغة العربية، وظهور آثار الإسلام وانتشاره في بلاد «الكانم – برنو»، وذلك بقوله: «إن أهل كانم متمسكون بالقرآن وشريعة الإسلام، محافظون عليه، والإسلام منتشر في طول بلادهم وعرضها، حتى عمّ جميع الطبقات من الحكام والوزراء والرعايا، والواقع لا يوجد في بلادنا – أي بلاد الهوسا – حفظةً للقرآن ومتعلمون بقدر ما يوجد في بلاد كانم» (43).
خاتمة:
يمكن القول من خلال هذه الدراسة: بأن الثقافة الإسلامية في «كانم» (تشاد) كان طابعها عربياً إسلامياً صرفاً، لم تداخله أية تأثيرات أخرى، وإن كان عامة الناس يستخدمون لهجاتهم ولغاتهم الخاصة، ثم يستخدمون اللغة العربية في تعبيرهم الثقافي، وفي صلواتهم، وفي المعاملات والإدارة والمراسلات، كما أن الإسلام وتعاليمه طوّر شعوب هذه المنطقة بالثقافة الإسلامية.
وبهذه الأسباب كسبت تشاد دوراً ومركزاً له أهميته وقيمته، بل أصبحت تؤدي دوراً ثقافياً ودينياً مهمّاً بعد دخول الإسلام فيها.
غير أن هذا الانتشار الحضاري والثقافي والتعليمي لم يستمر على هذا الوصف الذي وصفناه، وذلك بسبب الاستخراب الذي جسم على تشاد في مطلع القرن العشرين، وبخاصة الاستخراب الفرنسي، وما خلّفته فرنسا من تحدّيات وتوجّهات.
(قراءات افريقية)