أخبار العالمثقافة وتعليم
الاستشراق الفرنسي وأثره في المشروع الإمبريالي بإفريقيا
إنَّ توظيف الاستشراق والعلوم الأخرى في تحقيق أهدافٍ إمبرياليَّة حقيقةٌ تاريخيَّة ماثلة، لا يکاد يختلف حولها الباحثون، سواء في کَوْن الاستشراق حرکةً مُمهِّدةً للإمبرياليَّة أو منظِّرةً لأيديولوجيَّاتها، أو أداةً من أدواتها التَّحکُّميَّة في الشُّعوب غير الأوروبيَّة، أو كَوْنها حاضنةً تولِّد أشكالاً وصُوَراً جديدة من الإمبرياليَّة، وتؤمِّنُ تحقيق أهدافها بعد انحسار صورتها العسكريَّة الصَّارخة في القرنَيْن الماضيَيْن، إنَّ الاستشراق– بلا شكٍّ- دعامةٌ مرکزيَّة في المشروع الاستعماريِّ.
الدِّراسات في رصد العلاقة بين الاستشراق والاستعمار تکاد تستعصي على الحصر، ولعلَّ منها: دراسات يوهان فوك، الذي أرَّخ للاستشراق بتحديد مراحله وعلاقتها بالمشروع الإمبريالي(1)، ولخَّصها بعض الباحثين في: الاستشراق الاستکشافي، والاستعماري، وما بعد الاستعماري، والاستشراق الجديد، وانهيار الاستشراق(2)، ومن أشهر الدِّراسات النَّاجحة في بيان الاستشراق بوصفه مُنْتَجاً استعماريّاً غربيّاً بامتياز: دراسات إدوارد سعيد (ت2003م).
وهنا؛ لا يختلف السِّياقُ الإفريقي في الاستشراق عن الشُّعوب الأخرى، غيرَ أنَّ الظَّرفَ الإفريقيَّ يمكن وصفه بأنَّه أكثر عمقاً وشراسةً؛ إذْ هو مُزْدَوَج: عرقيٌّ وديني، أي أنَّ الاستشراق بإفريقيا يحمل سلاحاً ذا حدَّين: حدٌّ يقطعُ الإفريقيَّ عن هويَّته العِرْقيَّة، وحدٌّ آخر يقطعُهُ عن انتمائه العَقدي الدِّيني (الإسلامي خاصَّة).
وإذا كان من المقرَّر عند الباحثين أنَّ فروع العلم (نبات، طبّ، جغرافيا، علوم إنسانيَّة…) جميعها قد صَبَّت في الهدف الإمبرياليِّ التَّسلُّطي، وأنَّ الباحثين الأنثروبولوجيِّين في إفريقيا– كما يقرِّره ماكيتْ (Maquet, 1964)-: «قد ساهموا في مختلف أزمانهم، في دَعْم الأهداف السِّياسيَّة والإمبرياليَّة لبلادهم تجاه المجموعات التي قاموا بدراستها»(3)، فإنَّ المقال الحالي لا يعدو تقديم أمثلة ونماذج من: التَّناغُم الدَّقيق بين الدِّراسات الاستشراقيَّة والاستعمار الإمبريالي، في السِّياق الإفريقي، وبالتَّحديد: الاستعمار الفرنسي بغرب إفريقيا.
المحور الأوَّل: الكشوف الجغرافيَّة والاستشراق:
تعود الحرکة الاستشراقيَّة، بوصفها حقلاً علميّاً مكرَّساً لخدمة المشروع الإمبرياليّ، إلى حرکة الکشوفات الجغرافيَّة الکبرى التي نشطت منذ أواسط ق15م، ولا خلافَ في أنَّ اکتشاف فاسکو دا غاما لطريق رأس الرَّجاء الصَّالح (عام 1498م)؛ قد فتح للأوروبيِّين باب استغلال بلاد الهند وآسيا، ولا أدلَّ على أهميَّة الحملات الاستكشافيَّة لقيام المشروع الإمبرياليِّ من تسابُق القوى الاستعماريَّة وتنافسها في تجهيز الأساطيل، وإنشاء الجمعيات والمعاهد المعنيَّة بالكشوفات الجغرافيَّة. كذلك؛ فإنَّ كثيراً من الأفراد الرَّحالة والمستكشفين كانوا على صلةٍ مباشرةٍ بالقوَّة الإمبرياليَّة بوصفهم قواد جيوش أو إداريِّين، أمثال: ليفينغستون (David Livington)، وستانلي (Henry Morton Stanley)، وغاليني (Joseph Gallieni)، وغيرهم كثير.
ومن أدلة هذا الارتباط: لجوؤهم إلى وسيلةٍ جاسوسيَّة، عُرِفت بين المستكشفين والرَّحالة بـ«الجغرافيا الجاسوسيَّة» أو «الجغرافيا المتخفيَّة»، ويعرِّفها الباحثان توماس ونورتون بأنَّها: «طريقة في البحث الميداني؛ حيث لا يكشف الباحثون عن حقيقة أهداف بحوثهم للمجتمعات المحليَّة… وبناءً على الظُّروف؛ فإنَّهم قد يُخفون أو يموِّهون هويَّاتهم الحقيقيَّة، وجنسيَّاتهم، وانتماءاتهم، أو قد لا يُشيرون صراحةً إلى أنَّ ما يقومون به من تحرُّكات إنَّما هي بحوث»(4).
في هذا السِّياق؛ اشتُهِر الكثير من الرَّحالة الذين كانوا يتجسَّسون على المجتمعات، وبخاصَّة المسلمة، متخفِّين في هُوِيَّات مختلفة، ومنهم: الرَّحالة جون لويس بوخارت (John Lewis Burckhardt, 1784-1817) الذي تنقَّل في بلاد الشَّرق بالاسم المستعار: الشَّيخ إبراهيم بن عبد الله، وتوفي بالقاهرة، وهو صاحب الكتاب الشَّهير (رحلات في النوبة)، ومنهم إدوارد هنري بالمز (Edward H. Palmer, 1840-1882)، وکان اسمه المستعار الشيخ عبد الله، وکانت مهمَّتُه الأساسيَّة إفشال حرکة عرابي باشا الثَّوريَّة ضدّ البريطانيِّين، ورشوة البدو لترك مناصرته. أيضاً منهم: الرَّحالة الإنجليزي غيفورد بالْغراف (William Gifford Palgrave, 1826-1888) بسوريا، تظاهر بزيِّ طبيبٍ نصرانيٍّ سوري، واتَّخذ الاسم: سالين أبو محمود الآيس، وهو صاحب تقارير تجسُّسيَّة قدَّمها لنابليون في غارته على سوريا ومصر. ومن الجواسيس: شارل داوتي (Charles Doughty, 1843-1926) صاحب کتاب (رحلات في الصَّحراء العربيَّة)، واتَّخذ الاسم «خليل» في تنقُّلاته في البلاد الإسلاميَّة. ومن النِّساء الشَّهيرات: غيرترود (Gertrude Lowthian Bell)، وكانت من جاسوسات بريطانيا، توفيت ببغداد (1926م)(5).
هذا، وفي فترة متأخِّرة، أصبح التَّجسُّس صناعةً بين الإمبرياليِّين أنفسهم؛ في ظلِّ تكالُبِهم على الشُّعوب.
أمَّا في السِّياق الإفريقيِّ خاصَّة؛ فقد عُرِف من الرَّحالة الجواسيس: الكابتن سير ريتشارد بورتون (Sir Richard Burton, d.1882)، أوَّل أوروبي توغَّل عام (1854م) داخل الحصن الإسلامي «هرر» عاصمة الصُّومال آنذاك، متخفيّاً في زيِّ تاجر عربي، بفضل معرفته باللُّغة العربيَّة، ورَسَمَ خطَّة الحصن ومواقع الأسلحة، وقاسَ أطوال الممرَّات وأجزاء الحِصْن بدقَّة، وأخفى كلَّ ذلك في صورة فراشة. كما جاب منطقة وسط إفريقيا في رحلاته للبحث عن منبع النيل، استخدم فيها الكثير من مهارات التَّمويه والتَّخفي، واستخدم المهارات نفسها عام (1853م) في رحلته الشَّهيرة إلى مكَّة والمدينة متخفِّياً في زيِّ طبيبٍ أفغاني، وتُعدُّ تقاريره عن الحرمَيْن أدقَّ وصف، وقد كان بورتون يعمل لحساب الجمعيَّة الملكية الجغرافيَّة البريطانيَّة.
من الرَّحالة الإمبرياليِّين الذين اتُّهموا بالتَّجسُّس بغرب إفريقيا: هنريث بارث (Heinrich Barth, 1821-1865)، الذي جاب شمال إفريقيا ووسطها في غضون خمس سنوات (1945-1954م)، وقطع (16.093كم) في الصَّحراء، وقد طاف حيناً بمنطقة تمبُكتو مدَّعياً أنَّه من الشُّرفاء؛ فحَظِي بالاحترام، وقصَدَهُ النَّاس للتَّبرُّك! كما ادَّعى في موقفٍ أنَّه تركيٌّ؛ لكنَّه أُسْقِط في يده حين حدَّثه أحدُ المشايخ بالتُّركيَّة(6)، ولغلبة الشُّكوك في أمره حَبَسَه أمير «ماسنة»، غير أنَّ الفقيه الشَّيخ أحمد البكائي أَمَرَ بالإفراج عنه؛ لكونه في حكم الذِّميِّين(7)، على كلٍّ؛ فإنَّ بارث يُحمَدُ له إنصافه الثَّقافة الإفريقيَّة واحترامه لها أكثر من غيره من المستكشفين(8).
كان الزُّعماء المسلمون بإفريقيا يتوجَّسون أيضاً من الرَّحالة كلابرتون (Hugh Claperton, d.1827)، فقد كتب حاكم بورنو إلى محمد بيلو في صكوتو يحذِّره منه، ويصفه بأنَّه: جاسوسٌ لصالح بريطانيا، وكذلك حذَّر بيلو أميرَ ماسنة (سيكو أحمد) من المستكشف ألكسندر (Alexander Laing)(9).
وإجمالاً: فإنَّ «استعمار إفريقيا في أولى مراحله، مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالکشوفات الجغرافيَّة»(10)، بل إنَّ فرنسا، بعد أن أحكمت قبضتها في غرب إفريقيا، اقترح حاكمُها كلوزيل: تأسيس شرطة خاصَّة بالمسلمين من أجل التَّجسُّس على العلماء والأئمَّة، ورصد تحرُّكاتهم(11)؛ أي أن يتطوَّر التَّجسُّس إلى عمليَّة مُمَنْهجة.
ومما يكشف التوجّهات الإمبرياليَّة الأولى لأولئك المستكشفين، والتَّناغم التَّام بينهم وبين القوى العظمى، مسارعتهم إلى إطلاق الكثير من أسماء المناطق الأوروبيَّة التي وفدوا منها على المناطق التي جابوها، وقد تكلَّل ذلك فيما بعد بإطلاق أسماء مُدن ومناطق أوروبيَّة وأسماء مستكشفين أو إمبرياليِّين على دُوَلٍ إفريقيَّة بأكملها في فترة الاستعمار، وبعد الاستقلال، على سبيل المثال: أطلقت ألمانيا على مواقع نفوذ لها: New Baden, New Saxony, New Bavaria etc.، وأطلقت فرنسا على عموم غرب إفريقيا مسمَّى (Afrique Occidentale Francaise)، وجُزر موريشوس هي اسم المُستعمِر (Maurits Van Nassaueiland, d.1625)، وأُطْلِق على بلاد شونا اسم المُستعمِر الإنجليزي (Cecile Rhodes, d.1902)، فأصبحت (Rhodesia)، الذي غُيِّر فيما بعدُ إلى زيمبابوي، ومثل ذلك يُقال في كاميرون، ومدينة برازافيل، وليوبولدفيل، وبِنزرْفيل، وغيرها، وكذلك مواقع كثيرة سارع المستكشفون إلى إطلاق أسمائهم عليها (بُحيرة «فيكتوريا»؛ اسم ملكة بريطانيا)، وكأنَّ تلك المواقع لم تُعرف إلا بوصول المستكشف الغربي إليها!
ومن أهمِّ النَّتائج السِّلبيَّة لرحلات المستكشفين الأوروبيِّين بإفريقيا وغيرها:
1- نشوب الحروب الضَّارية بين القوى الأوروبيَّة؛ للاستحواذ على الأراضي والموارد الطَّبيعيَّة الجديدة، وطُرق الملاحة المكتشفة.
2- لجوء المُستكشفين إلى طُرقٍ وحشيَّةٍ بَشِعَةٍ في التَّعامل مع أهالي الأرض والجزر المكتشَفة، حتى الشُّعوب التي كانت جِدُّ مسالمة مع المستوطنين الأوروبيِّين، بل قاموا بمحاولات تطهيرٍ عرقيٍّ للسُّكان المحليِّين في أمريكا وأستراليا، وفي ناميبيا (إبادة ألمانيا لمجموعات هِيريرو).
3- ظهور أبشع تجارة في تاريخ البشريَّة، وهي تجارة الرَّقيق، فقد سُجِّلت أوَّل حالة على أيدي المُستكشفين البرتغال بغرب إفريقيا (عام 1442م)، وتوسَّعت إلى تجارة العبيد عبر الأطلسيِّ، التي دامت لأربعة قرون، ونُقِل فيها ما بين 10-15 مليون إفريقي إلى الأمريكَتَيْن عَنْوَة.
4- تصدير المسيحيَّة للأراضي المكتشَفة، ولم يكن تصديراً سلميّاً؛ لأنَّ المسيحيَّة كانت تأتي في ظلِّ البارود والمدافع، و «انتشرت بسيف الإمبرياليَّة»؛ كما يقول المزروعي(12).
5- استيلاء المُستكشفين على الكرة الأرضيَّة وتقسيمها فيما بينهم، وغدت إفريقيا أكبر المستعمرات في العالَم؛ حيث استحْوَذَت بريطانيا على نسبة (45%) منها، وفرنسا على (21%)، وقد أُزهقت ملايين الأرواح في الدِّفاع عن أراضيها وحقوقها على أيدي المُستعمِرين(13).
6- إسهام الجغرافيِّين والمستكشفين والرَّحالة في تشكيل رؤية مُغرِضة مغلوطة عن الشُّعوب، وفي تكوين العقل الأوروبي وتهيئته من أجل دَعْم المشروع الإمبريالي، وفي هذا الإطار تمَّ رَسْم صورةٍ نمطيَّة سلبيَّة عن «الآخر» في الذِّهنيَّة الأوروبيَّة، تعزِّز عند الأوروبيِّ النَّظرة الدُّونيَّة إلى الشُّعوب الأخرى، وبخاصة الأفارقة، وتكريس رؤية التَّمركز الأوروبي (Euro-Centrism)، وتنزع عن الآخر كلَّ حقٍّ له في الكرامة البشريَّة.
ومن الإنصاف؛ الإشارة إلى بعض النتائج الإيجابيَّة للكشوف الجغرافيَّة، مثل: إسهامها في تقدُّم العلوم الجغرافيَّة، واكتشاف ثرواتٍ طبيعيَّة، ولكنَّها استُغلَّت استغلالاً وحشيّاً؛ فآلت إلى أضدادها.
المحور الثَّاني: الأنثروبولوجيا والاستشراق:
إذا کانت حرکة الکشوف الجغرافيَّة قد مثَّلت النَّشاط الحرکيَّ الممهِّد للحملات الإمبرياليَّة؛ فإنَّ الدِّراسات الاستشراقيَّة الاجتماعيَّة، قد مثَّلت البنية التَّحتيَّة الفکريَّة للإمبرياليَّة، وذلك في العلاقة العضويَّة الواضحة بين الدِّراسات الاجتماعيَّة (الأنثروبولوجيا خاصَّة) والخُطط والقرارات الاستعماريَّة، ولعلَّ الباحثين لم يغالوا إذْ وصفوا «الأنثروبولوجيا» بأنَّها «وليدة الإمبرياليَّة».
ومنشأ العلاقة بين الاثنَيْن أنَّ القوَّة الاستعماريَّة قد وفَّرت دائماً الدَّعم الماديَّ والحماية اللاَّزمة، وميدان العمل للدَّارسين الأنثروبولوجيِّين؛ بينما وفَّر أولئك للمُستعمِر المعطيات الضَّروريَّة لإحكام سيطرته على الشُّعوب، والمسوّغ الفكري والأيديولوجي والعلمي له في اتِّباع سياسته، وساعدوه في معرفة نقاط القوَّة والضَّعف في الشُّعوب للتَّحکم فيها.
في السِّياق الإفريقي تحديداً؛ تعدُّ فرنسا أكثر المستعمِرين اهتماماً بالدِّراسات الأنثروبولوجيَّة، وقد راجت بها تلك البحوث في العقود الأخيرة من ق19م (1870م)، فتمَّ إنشاء مدرسة الأنثروبولوجيا بباريس (1876م)، ومتحف تروكاديرو للسُّلالات (1878م)، وكانت تُعرف بالدِّراسات الإثنوغرافيَّة. وقد كُتبت في تلك الفترة، إلى ما قبل الحرب العالميَّة، معظم البحوث الأنثروبولوجيَّة على أيدي القادة والحكام الفرنسيِّين بمستعمرات فرنسا؛ من أمثال: جوزيف فرانْسُوا كلوزيل الحاكم العام بإفريقيا الغربيَّة الفرنسيَّة (1915م)، وزميله موريس دولافوس مؤسِّس معهد السُّلالات العالمي بباريس (1901م)، وهو الذي قضى أكثر من عقدَيْن من الزَّمن في دراسة مجتمعات غرب إفريقيا والإسلام، ونشر نتائج بحوثه في كُتُبٍ لا تزال تعدُّ أهمَّ المرجعيَّات إلى الآن.
ومن الموضوعات التي دَعَم بها الباحثون الأنثروبولوجيّون المشروع الإمبريالي:
يُعدُّ موضوع «الأجناس الكولونياليَّة» موضوعاً محوريّاً في الدِّراسات الأنثروبولوجيَّة الفرنسيَّة؛ وفيه ركَّز الأنثروبولوجيُّون على وضع الفروق القاطعة بين المجموعات الإفريقيَّة، مكرِّسين في ذلك فكرة اختلاف الشُّعوب الإفريقيَّة في أصولها وثقافاتها. وكان المشروع خطوة ممهِّدة لتفتيت المجموعات بإفريقيا، وإحداث تخلخُلٍ ديموغرافيٍّ في المستعمرات، يقضي على كلِّ بادرة مقاومة، وعلى كلِّ شعورٍ بالوحدة بين الأفارقة.
أمَّا التَّطبيق العملي لنتائج هذه الدِّراسات الأنثروبولوجيَّة؛ فقد جرى تحت ما يُعرف بـ«سياسة الأعراق»، وبها تمَّ تهجير مجموعاتٍ من أراضيها، أو انتزاع موارد من مجموعةٍ إثنية لصالح أخرى، أو تفضيل مجموعةٍ بمزيَّة استعماريَّة دون غيرها.
ومن أمثلة دعم الأنثروبولوجيِّين لسياسة الأعراق: دراسات الباحث شارل م. (Charles Maclaudd) عام 1906م في غينيا، التي زعم فيها: أنَّ التَّوزيع الدِّيموغرافي في هذه المنطقة غير متوازنٍ، وأنَّ القبائل متحاربة، وأنَّ «الكولونياليَّة» وحدها كفيلة بإيقاف التَّناحر القَبَلي، وعليه؛ اقترح إعادة تركيب القبائل؛ بتهجير بعضها إلى مناطق قبائل أخرى، وصهر بعضها في بعض؛ لإيجاد أعراقٍ جديدة(14).
ب- الفرضيَّة الحاميَّة:
وروّج الدَّارسون الأنثروبولوجيُّون، دعماً للأهداف الاستعماريَّة، ما أطلقوا عليه: «النَّظريَّة الحاميَّة»، يزعمون أنَّ كلَّ تطوُّرٍ بـ«القارة السَّوداء» إنَّما هو من تأثيرٍ أجنبيٍّ ساميّ، بدءاً بحضارة مصر القديمة والحبشة وزيمبابوي الكبرى، والممالك العظمى، وجهد الأنثروبولوجيُّون في ربط أصول مجموعاتٍ إثنيَّة إفريقية بالسَّاميّين، وأنَّها أكثر ذكاءً وأرفع قَدْراً من غيرها(15).
ومن أخطر توظيفات هذا الطَّرح العنصري: قيام بلجيکا في رواندا وبوروندي بتوزيع القبائل إلى «حاميّة» في مقابل «بانْتُويَّة»، وتصنيف التُّوتسي إلى «حاميّة» ذات أصولٍ «ساميَّة» يهوديَّة عالية، ووصفهم بأنَّهم أذکياء «قادة بالأصالة»، بينما الهوتو «وضيعة»(16)، وتمَّ تأکيد هذا الزَّعم عبر دراساتٍ تاريخيَّة أنثروبولوجيَّة(17)، وأکَّدها قساوسة؛ لأنَّ هذا الزَّعم کان يخدم المهمَّة التَّنصيريَّة(18)، غير أنَّ نَتيجة هذا الزَّعم: عداءٌ مُزمن وحروبٌ مدمِّرة بين التُّوتسي والهوتو.
ومن المجموعات التي نُسبتْ إلى «الحاميِّين» أيضاً «الفولاني»، زَعَمَ ذلك دولافوس، الذي أرجَعَ أصلهم إلى يهود هکسوس في سوريا(19).
أمَّا فرنسا خاصَّة؛ فإنَّها قد وظَّفت هذا الزَّعم في جميع مستعمراتها، ففي الجزائر مثلاً: زَعَمَ الباحثون أنَّ البَرْبَر أكثر قرباً إلى الجنس الأوروبي من العرب، ومن ثَمّ فَهُم أكثر تحضُّراً من العرب، وعُرِف ذلك بـ«ـأسطورة الأمازيغ»، وبالمثل حين توغَّلت فرنسا جنوب الصَّحراء، استخدمت الأسطورة نفسها فيما أطلق عليه الباحث باندولْفي (Tuareg Myth)، وهو زَعْمهم أنَّ الطَّوارق من أصولٍ شرقيَّة يهوديَّة، وأنَّهم من ثَمّ أكثر تحضُّراً وأرفع عقلاً من الزُّنوج(20)، ولا تزال تلك السِّياسة تُشكِّل العلاقة بين الطَّوارق ومواطنيهم.
هذا، ولا يخفى أنَّ «فرضيَّة» «الأصل الحامي» التي أطلقوا عليها «نظريَّة»، كانت تخدم الحركة الإمبرياليَّة في تقديم أساس أيديولوجيٍّ لأفعال الأوروبيِّين في القارة، وتسويغ تجارة الرَّقيق خاصَّة، كما أنَّ المنصِّرين وظَّفوها لتسويغ النشاطات التَّنصيريَّة؛ ما دام أنَّ بعض الأفارقة من أصولٍ يهوديَّة؛ فإنَّ النَّشاط التَّنصيريَّ بينهم إنَّما هو لإعادتهم إلى دينهم الأصل(21)، هذا ما أفصح عنه مجموعةٌ من کرادلة الفاتيکان عام (1870م)، حين دعت إلى حملة إنقاذ بوسط إفريقيا؛ لنجدة «الحاميِّين المغلوبين على أمرهم بين أظهُر الزُّنوج»، ومن أجل «تخفيف وطأة اللَّعنة القديمة على عواتق الحاميِّين القاطنين بين الزُّنوج الميؤوس منهم»(22).
ومن النَّتائج السلبية المباشرة التي أسفرت عنها الدِّراسات الأنثروبولوجيَّة الاستشراقيَّة:
– أنَّ الأنثروبولوجيِّين قد قدَّموا للمُستعمِرين الأفكار الضَّروريَّة التي وظَّفوها في وضع الخطط والقرارات، وطرق التَّحكُّم في الزِّعامات الإفريقيَّة، واحتواء الشُّعوب ثقافيّاً. وكما يوضِّحه الباحث ميمي (Memmi, 1967:71)، فإنَّ الأنثروبولوجيِّين قد فتحوا قنوات أحاديَّة الاتِّجاه بين ثقافتَي المُستعمِر والمُستعمَر: (أ) فجعلوا ثقافة الغرب هي المطَّلعة الوحيدة على ثقافة الشُّعوب. بالمقابل؛ قاموا بتقديم مفردات ثقافة الغرب إلى الشُّعوب بالصورة التي تريدها هي. (ب) وأعطوا للغرب مفاتيح استغلال تلك القنوات الثَّقافيَّة لإحكام سيطرته على أصحاب الثَّقافات المكتشَفة.
– تصدير الأوهام والأباطيل التي تؤلّه الرَّجل الأبيض، وتضرب هالة مزَّيفة حوله، مثل: «الرَّجل الأصفر يعيش في الماضي، والأسْوَد في الحاضر، والأبيض يعيش في المستقبل»، وتصنيفهم الأجناس إلى أطفال وراشدين، وفَعَلة وسادة، وترويجهم لأكذوبة عبء الرَّجل الأبيض ورسالته الحضاريَّة، وأنّ الجنس الإفريقي: متوحِّش، بدائي، متخلِّف، يتصرَّف تصرُّفاً طفوليّاً، ليس لديه قِيَمٌ أخلاقيَّة مرجعيَّة، وإنَّما يتصرَّف بالعاطفة.
أمَّا الأرض الإفريقيَّة: فروّجوا أنها أرضٌ بلا تاريخ، أو بالأحرى بلا تاريخ من صُنع أهلها، وهذا ما سوّغ– كما يؤكِّده الباحث ماكيتْ (Maquet, 1964)- للمُستعمِرين حملتهم الاستعماريَّة(23)، بالإضافة إلى متواليةٍ من الأوهام، مثل: الزَّعم بأنَّ مهمَّة الأوروبي هي: نشر الدِّيمقراطيَّة، والدِّفاع عن حقوق الإنسان، وغير ذلك.
– أنَّ الأنثروبولوجيِّين قد شاركوا المُستعمِر مشاركةً مباشرةً في استغلال إفريقيا وغيرها من المجتمعات، يوضِّح الباحث غالْتونْغ (Galtung) ذلك بالقول: «إنَّ الباحثين قد أعطوا أنفسهم حقّاً غير محدود؛ للوصول إلى أيِّ معلومةٍ من أي نوعٍ كانت. تماماً مثلما يُعطي الكولونياليّ نفسه الحقَّ في الاستيلاء على أيِّ مصدرٍ تجاريٍّ في الأرض المُستعْمَرة»، فلا فَرْقَ بين الاستغلال التِّجاريِّ للمواد الأوليَّة في الأرض المُستعمَرة وبين استغلال مصادر المعلومات بها، وقد أطلق على هذا التَّصرُّف مصطلح «كولونياليَّة علميَّة»(24).
المحور الثَّالث: الاستشراق الإفريقي والإسلام:
للإسلام ومجتمعاته مكانةٌ خاصَّةٌ في الدِّراسات الاستشراقيَّة؛ لما يمثِّله بعقيدته وشرائعه ومُثُله من تحدٍّ لتوجهات المُستعمِرين الاستغلاليَّة الاستعباديَّة.
ويتأكَّد الاهتمامُ الاستشراقيُّ بالإسلام في السِّياق الفرنسيِّ؛ لكَوْن مستعمرات فرنسا بإفريقيا– إلاَّ ما ندر- مسلمةً: من الجزائر حتى غينيا غرباً، وقد جاء تأكيد هذا في مقولة الحاكم الفرنسيِّ العام بالسنغال ويليام بونْتي: «إنَّ من واجبنا دراسة المجتمع المُسلم في مستعمراتنا بکلِّ تفاصيله (…)، سوف نجد في هذه الدِّراسة الأُسس الثَّابتة والتَّوجُّهات الأکثر ملاءمةً لخُططنا وقراراتنا تجاه المسلمين»(25).
عليه؛ فقد هبَّ كثيرٌ من رجالات الاستعمار الفرنسيِّ إلى دراسات مستفيضة عن المسلمين، منها: دراسات لويس رين عن الإسلام بالجزائر(26)، وكوبولاني عن الجماعات الصُّوفية(27)، ومن الدِّراسات الأولى بغرب إفريقيا دراسات كرير عن مسلمي سنيغامْبيا (De la Senegambie Francaise, 1905). ووضع أرنولد ومذكِّرة قانون عن سياسة المسلمين بغرب إفريقيا (Arnauld R. Precis de politique musulmane, 1906). ودراسات كثيرة على أيدي الإداريِّين أو العسكريِّين الفرنسيِّين، أمثال: فرانْسوا كلوزيل، ودولافوسْ، وبريفيير (J. Brévié)، وبولْ مارْتي، وهذا الأخير يكاد يكون أشهرهم، وكما يقول الباحث بانْغورا؛ فإنَّ كتاباته «قد ساهمت كثيراً في تشكيل الرُّؤية الفرنسيَّة عن الإسلام بإفريقيا»(28). ودراسات الحاكم العامِّ فيديرب (Louise Faidherbe, 1889)، وهو صاحب أبحاثٍ أنثروبولوجيَّة أوليَّة عن المسلمين بمنطقة سنيغامبيا.
ويمكن الوقوف عند معالم الدِّراسات الاستشراقيَّة الفرنسيَّة في غرب إفريقيا في ثلاث نقاط:
أوَّلاً: الإسلام وثقافته:
قام الباحثون الأنثروبولوجيُّون الاجتماعيُّون بدراسة المجتمعات الإفريقية بغرب إفريقيا، وكان لا بدَّ لهم من التَّعرُّض للإسلام ومظاهره في تلك المجتمعات، وقد فعلوا؛ ولكنْ بطريقة مغايرة عكسيَّة، وذلك تحت مفهوم «الإسلام الأسْوَد» (lslam Noir)(29) ، وهو مصطلحٌ وضَعَه «بول مارتي»، وملخَّصُ فكرته: أنَّ الإسلام بإفريقيا ينتمي إلى الرُّؤية الإفريقيَّة التَّقليديَّة، والعادات والدِّيانة الإفريقيَّة القديمة، أكثر من انتمائه إلى الأصل المعروف المتوارث عن الجزيرة العربيَّة، وهذا الاختلاف– في زعمهم- عميقٌ واسع: في العقائد والعبادات والمعاملات، وفي الرُّؤية الكليَّة عن الكون والحياة(30).
على سبيل المثال؛ يزعم ألفونس غويي: أنَّ مفهوم وحدانيَّة الله في «الإسلام الأسْوَد» مغايرٌ تماماً له في «الإسلام الأرثوذكسي»؛ فيقول: «إنَّ الإسلام الأسْوَد يبتعد عن مفهوم الله كما صوَّره القرآن، ليصبَّ في هذا القالب المضطّرب المؤمن بوحدة الوجود الذي يمثِّل معتقدات الأفارقة»(31)، من وسائلهم لتأكيد فكرة «الإسلام الأسْوَد»: إبراز المظاهر الوثنيَّة في بعض المجموعات؛ رغبةً في التَّستُّر على المظاهر الإسلاميَّة الموغلة في ثقافتها، على سبيل المثال قام الباحثان غريولْ وجيرمينْ بدراساتٍ مستفيضة عن علوم الفلك والكَونيَّات عند مجموعة دوغونْ (Dogon) شرق مالي، مع تحاشي الإشارة إلى حاضرة بانْجاغارا الإسلاميَّة الواقعة وسط بلاد دُوغونْ. وفي دراساتٍ عن الدِّين بين يوربا؛ صرَّح الباحثون بعدم التَّعرُّض للإسلام والمسيحيَّة، على الرّغم من أنّ تعداد المنتمين إلى الدِّيانة التَّقليديَّة، في المناطق التي غطتها الدِّراسات، لا يتعدَّى: (6 إلى 20%)(32).
تجدر الإشارة إلى: أنَّ السَّبب المباشر في ظهور فکرة «الإسلام الأسْوَد» هو المقاومة المسلَّحة الشَّرسة التي واجهتها فرنسا بالجزائر، وکان الإسلام هو المحرِّك لها، وحين جاءت فرنسا إلى بلاد غرب إفريقيا، ووجدت الإسلامَ قد تغلغلَ في النَّسيج الاجتماعيِّ والثَّقافيّ لشُعوبها، حاولت الالتفاف على الإسلام بوسيلةٍ أخرى. بالإضافة إلى ذلك؛ فإنَّ الارتباط بين مفهوم «الإسلام الأسْوَد» والتَّرويج الاستشراقي للعصبيَّات والعِرْقيَّات ارتباطٌ واضح؛ فقد تمَّ إطلاق هذا المفهوم للقطيعة بين مسلمي إفريقيا جنوب الصَّحراء وشمالها، حيث زعموا أنَّ الإسلام المغاربيَّ متعصِّب عدواني، بينما «الإسلام الأسْوَد» مسالم.
في هذا السِّياق؛ نجد أنَّ المبعوث الفرنسيّ إلى بلاد السُّودان الغربيِّ آنذاك، ويليام بونتي، قد أفاض في التَّحذير ممَّا أسماه «التَّأثير المغربي» (influence maghrebine) في إفريقيا الغربيَّة «الفرنسيَّة»، وبناءً على توصياته؛ عمدت فرنسا إلى تأسيس «مصلحة للشُّؤون الإسلاميَّة» لصدِّ هذا التَّأثير(33)، وقد أكَّد الحاكمُ الفرنسيُّ فيديربْ هذا الإحباط الفرنسي في وجه هذا التَّقارُب، بين بلاد المغرب وشعوب إفريقيا، في خطابٍ له (عام 1860م)، قال: «يا شعبَ السِّنغال؛ إنَّ معظمكم قد ورث ديانة العرب عن آبائكم، ونحن لا نعارض ذلك، وإنْ كنَّا نأسفُ له من أجل مصلحتكم أنتم. وعلى الرُّغم من ذلك؛ فإنَّكم لستُم مُلْزَمين بتاتاً باتِّباع العرَب في عاداتهم وتقاليدهم وفي قِيَمهم، وفي جهالاتهم. فلا تذهبوا عند المورْ للبحث عن مُثُلكم ونماذجكم الفكريَّة، بل تجدونها عندنا، نحن المحبِّين للسَّلام والنِّظام»(34).
ومن القادة العسکريِّين والإداريِّين الذين عملوا بالجزائر، وتمَّ نقلهم إلى غرب إفريقيا لتطبيق «السِّياسة الاستيعابيَّة» القائمة على فكرة «الإسلام الأسْوَد»: كوبولاني ودوبون (Xavier Coppolani, Octave Depont)(35) ، وهي احتواء المسلمين عَبْر زعمائهم من مشايخ الصُّوفيَّة والنُّخب المسلمة.
ثانياً: في التَّاريخ:
توجّه هؤلاء الباحثون أيضاً إلى تاريخ الإسلام بمنطقة غرب إفريقيا، وتاريخ الممالك العظمى بها (غانة ومالي وصونغاي)، وعَمَدُوا إلى تشويهه، ومن ذلك:
أ- الزعم بأنّ الإسلام دين بلاط وطقوس: بما أنَّه لا سبيل إلى الزَّعم بأنَّ الإسلام قد انتشر بإفريقيا بحدِّ السَّيف، فإنَّ ذلك قد عُوِّض بزعم: أنَّ الإسلام كان ديناً حبيساً في القصور، وكان في خدمة الملوك والمشايخ، وأنَّه لم يتعدَّ مستوى الطُّقوس والممارسات السِّحريَّة ليتغَلْغَل في العُمق الفكريِّ والثَّقافي للشُّعوب. ومن وسائل تأكيد هذا الزَّعم الماكرة: التَّستُّر على العلاقات التَّاريخيَّة العميقة بين غرب إفريقيا وبين العالَم المجاور في شمال إفريقيا والجزيرة، وكما يوضِّح الباحث ماهر صولْ؛ فإنَّ ذلك محاولة للتَّأكيد «أنَّ إفريقيا لم تدخل التَّاريخ إلاَّ عبر الكشوفات الأوروبيَّة»(36).
ب- تشويه صورة الممالك الإسلاميَّة وزعمائها: ترد حملةُ تشويه مُمَنهَجة في مؤلفاتهم ضدَّ الممالك والزِّعامات الإسلاميَّة، وبخاصَّة تلك التي وقفت في وجه الإمبرياليَّة، فتوصف بأوصافٍ طائفيَّة قَبَليَّة، فالخلافة الصُّكتيَّة، التي أسَّسها الشَّيخ عثمان دان فوديو، ما هي في نظر هنريت بارث إلاَّ تمرُّد عِرْقيٌّ من لدن الفولبي ضدَّ هيمنة هَوْسا(37)، وهي في رأي هوغْبِنْ في كتابه (الإمارات المحمديَّة بنيجيريا)(38) ثورةٌ تخريبيَّة قام بها الفولاني، أو صراعٌ عِرْقيٌّ سياسيٌّ في رأي بوفيلْ(39) وهودغنْ(40). وتوصف الحركة الجهاديَّة بزعامة الشَّيخ عمر الفوتي بمملكة توكولورْ، والمجاهد ساموري توري بثورة مالينكي(41)، وكأنَّ تلك الممالك كانت شأن قبيلةٍ وحدَها.
ج- تضخيم بعض الأحداث وتهميش أخرى مهمَّة: كتضخيم تجارة الرِّق في الشَّرق الإفريقيِّ- مثلاً- على أيدي العرب، وتلك محاولةٌ واضحةٌ للتَّقليل من شأن تجارة العبيد عبر الأطلسيّ، بل لإظهار المُستعمِر في صورة أبطال فاتحين، جاؤوا لتخليص الأفارقة من الرِّق العربيِّ.
ثالثاً: في الأدب والنَّقد:
كان الأدبُ والفنُّ حقلاً فسيحاً، جالتْ فيه الدِّراسات الاستشراقيَّة وصالت، ويظهر عمق التَّناغم بين تلك الدِّراسات والمشروع الإمبرياليِّ في المحاور الآتية:
أ- الأدب الاستعماري: ظهر حقلٌ دراسيٌّ باسم «الأدب الاستعماري»، كان من أشهر رواده الكاتب الفرنسي رولاند ل. (Roland Lebel, 1893-1964)، الذي صرَّح بالهدف الاستعماريِّ لهذا الأدب في مقدِّمة مجموعة مختارة من الأدب الإفريقيِّ، أنَّها «تتضمَّن قيمةً إثنوغرافيَّة معبِّرة عن نفسيَّات الأعراق في المجال الاستعماريِّ، (وتلك) معرفةٌ ملزمة لهيمنتنا»(42).
ب- الفولكلور الشَّعبي: يظهر البُعد الاستشراقي الكولونيالي في الاهتمام الشَّديد بالأساطير والقصص، وإظهار ملامحها الوثنيَّة، وكان القساوسةُ روَّادَ جمع الحِكَم والأمثال والأشعار الإفريقيَّة، وإدراجها في الدُّروس المسيحيَّة. كذلك؛ فإنَّ دراسة اللُّغات الإفريقيَّة ووضع قواميس لكلماتها، وكتابتها بحروفٍ لاتينيَّة، وترجمة الكتاب المقدَّس إليها.. كلُّ ذلك يصبُّ في خدمة المشروع الاستشراقيِّ.
وهنا يتمُّ تجاهل النَّماذج الأدبيَّة ذات التَّأثير الإسلامي الواضح، وحين يُواجَه الباحثون بنماذج تستعصي على الإنكار؛ فإنَّهم يلجؤون إلى تأويلاتٍ بعيدة للرُّموز الإسلاميَّة في تلك النَّماذج الأدبيَّة، نجد ذلك– مثلاً- في القراءات النَّقديَّة حول رواية (نظرة الملك) (Le Regard du Roi) للكاتب الغيني كمارا لايْ، إذْ فسَّر النُّقاد المستشرقون، أمثال (Jaheinz Jahn) و (Eustace palmer)، رموزَها الإسلاميَّة تفسيراتٍ مسيحيَّة(43)، ولعلَّ النَّاقد هاررو (Kenneth W. Harrow) في كتابه (أوجُه الإسلام في الأدب الإفريقي) (1991م)، والنَّاقد بانْغُورا في كتابه (الإسلام والرِّواية الأدبيَّة بغرب إفريقيا)(44) ، أهمُّ مَن نجحوا في تعرية هذا النَّهج الاستشراقي في الدِّراسات الأدبيَّة بإفريقيا.
ج- الفرنكوفونيَّة (La Francophonie): وهي متعدِّدة الأبعاد: سياسيَّة وثقافيَّة واجتماعيَّة، وتكمن خطورتها في محاولتها القضاء على كلِّ ما يربط بين الأفارقة، وجعْل اللُّغة والثَّقافة الفرنسيَّة هي الرَّابطة بينهم، وتُرصَد الجوائز والميزانيَّات الضَّخمة للتَّرويج للفكر الفرنكفوني والرُّؤى الغربيَّة المتطرِّفة عبر الفنون الأدبيَّة المختلفة، وخصوصاً في الشِّعر والرِّواية والقصَّة والسِّينما والمسرح، وهنا لا يقتصر التَّحدِّي على الإسلام وحده، وإنَّما الأدب الفرنكوفوني مشروعٌ يهدف لنسف ما يُعرف بالأدب ما بعد الكولونياليَّة (Post-Colonial Literature) برمَّته، كما أنَّ الفرنكوفونيَّة بمشروعها العام تهدف لوأد حركة إزالة الكولونياليَّة (De-Colonization) في جميع الميادين.
ومن الإنصاف الإشارة إلى أنَّ كثيراً من الدَّارسين المستشرقين في التَّاريخ والأنثروبولوجيا والأدب، وغيرها من الميادين العلميَّة، قد خدموا– وما زالوا يخدمون- تلك العلوم في السِّياق الإسلامي الإفريقيِّ، وكانوا أكثر إنصافاً ومنهجيَّة بقَدْر الإمكان، بل إنَّ منهم مَن يُعَدّ من أشدِّ المعارضين للطُّروحات الاستشراقيَّة الاستعماريَّة، من أولئك: المؤرِّخ هيسكتْ، صاحب الدِّراسات الرّائدة عن الإسلام بنيجيريا، منها (1973م): (سيف الحق: حياة الشيخ عثمان دان فوديو وزمانه)، ومورايْ لاسْت في كتابه (1970م): (الخلافة الصُّكتية)، وج. هونْويك، وهو رائد التَّاريخ الصُّونغائي، ومن طلائع دراساته كتابُهُ (1967م): (حركات الجهاد في القرن التَّاسع الميلاديِّ: ألْفُ عامٍ من تاريخ غرب إفريقيا).
ختاماً:
هذا التَّناغُم بين الدِّراسات الاستشراقيَّة والأهداف الإمبرياليَّة أسفر عن نتائج عميقة متشعِّبة، لا يكاد يسلم منها أحدٌ من المُستعْمَرين، ولعلَّ الدراسة الرَّائدة للمفكِّر فرانْز فانون Fanon, Frantz: (جلد أسوَد، أقنعة بيضاء) (2008م) أدقُّ دراسة في رصد آثار الاستعمار وتأثير أيديولوجيَّاته في نفسيَّة الشَّخصيَّة المُستعْمَرة.
ولعلَّ إحدى إفرازات تلك الدِّراسات الاستشراقيَّة في المجتمع الإفريقيِّ ظهور ما يُعرف بـ«الطَّبقة المثقَّفة ثقافةً غربيَّة» (Colonial Western-Educated Elite)، وهي الطَّبقة التي تمَّ تشكيلها فكريّاً، فلم تعد مجرَّد مقلِّد للغرب، وإنَّما غدَتْ متشرِّبة لرؤية العالَم الغربيَّة، وفق ما يخدم الهيمنة الاستعماريَّة الغربيَّة.
هذا، ولا نكاد نجد في المجتمعات المسلمة بإفريقيا حركةً فكريَّة حقيقيَّة مناهضةً للاستشراق الإمبريالي، ولعلَّ المفكِّر علي مزروعي، ومجموعةً من المفكِّرين والرِّوائيِّين والأدباء الأفارقة، ممَّن يوصَفون بأدباء «حركة مناهضة الاستعمار» (Anti-Colonial Writers)، هُم وحدهم الواقفون في خطِّ الدِّفاع الأوَّل ضدَّ الاستشراق الإمبريالي، من أولئك على سبيل المثال: شيخ أنتا ديوبْ، وحميدُو كانْ، وكينْ بوغولْ، ويامْبو ألوغْيومْ، وأحمدو كروما، وأمثالهم.
وفي رأينا؛ أنَّ الحلَّ المتوفر بحوزتنا، في الوقت الرَّاهن في مواجهة الدِّراسات الاستشراقيَّة، قديمها وحديثها، هو تعضيدُ هذا الخطِّ الدِّفاعيِّ الذي شيَّده المثقَّفون المسلمون المناهضون للاستعمار، ونُشدِّد هنا على «المسلمون»؛ لأنَّ غير المسلمين المنطلقين من رؤية «مركزيَّة إفريقيَّة» (Afro-Centric Writers)، وإنْ كانوا من ألدِّ خصوم الإمبرياليَّة، فإنَّ لهم كذلك مآخذ جوهريَّة على الإسلام وتاريخه بالقارة، ومنهم: موليفي كيتي، وسوينْكا.
ولعلَّ خير مَنْ يتولَّى هذه المهمَّة التَّعضيديَّة للمثقَّفين المسلمين المناهضين للاستعمار بإفريقيا: الجامعات الإسلاميَّة الفتيَّة التي أصبحت تكثُرُ بشكلٍ ملاحظ، وذلك بتنسيقٍ هادفٍ واعٍ بينها في جميع مناهجها ومقرَّراتها ونتاجها المعرفيِّ، ومخرجاتها من الكوادر العلميَّة الشَّابة بإفريقيا.