سياحة و سفر

نقوش فرعونية في جبال تشاد تروي حكايات الشموخ ووحشة النسيان

 

في رحلة تحفها المخاطر وتغلفها قسوة الطريق ووعورة الدروب ، زار موفد وكالة أنباء الشرق الأوسط إلى تشاد مناطق تضم نقوشًا أثرية تعود إلى أكثر من خمسة آلاف عام ، تشير الدلائل إلى أن أجدادنا الفراعنة حفروها تخليدًا لزمن الشموخ الذي بقيت تلك الآثار شاهدًا عليه، سواء على شواهد الجبال أو داخل الكهوف التي سكنوها في منطقة تقع على الحدود بين تشاد والسودان وليبيا.

وفي الطريق إلى منطقة ” تيبستي ” التي تبعد حوالي 2000 كيلومتر عن العاصمة التشادية إنجمينا حيث سلسلة جبال ” ايميكوسي ” التي تبلغ ارتفاعاتها 3415 مترا ، كانت رحلة الاكتشاف تمضي عبر الطرق الترابية شديدة الانحراف والوعورة ، لا زاد فيها غير الماء وقليل من الطعام وكثير من الصبر والجرأة ، فالهدف هو المرور إلى مثلث الحياة في مناطق ” بوركو وآنيدي انتهاء باقليم تيبستي ” تلك المنطقة التي تضم أكبر خزان للمياه في العالم ، والتي استمد الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي من نبعها بدايات مشروع “النهر العظيم ” .

في تلك الرحلة التي قادنا فيها ” دليل الصحراء” تتبعنا الطريق الذي سار فيه المؤرخ والرحالة الألماني ” ناتيجال” عام 1869 حيث اكتشف خلالها الصحراء الكبرى والجبال والواحات والنقوش الفرعونية ، قبل أن تبدأ رحلة أخرى للمؤرخ وخبير الآثار ايف كوبنز عام 1959 ثم الرحلة الأشهر للخبير ميشيل برينو الذي اكتشف آثار أول إنسان على الأرض وأطلق عليه اسم ” توماي” والذي يبلغ عمره ستة ملايين سنة وذلك في صحراء “جراب” على بعد حوالي 800 كم شمال العاصمة إنجمينا .

كانت أول الحواضر التي مررنا بها بعد الخروج من العاصمة إنجمينا هي منطقة ساكوري لنبدأ طريق الصحراء الكبرى مرورا بمنطقة ” صلال ” ثم ” كوبا اولانجا” حتى وصلنا إلى منطقة ” فيا ” وسط الصحراء والتي تحكي أول النقوش التي صادفتنا فيها تباشير تواجد الفراعنة ، حيث توضح تلك النقوش المترامية نماذج من حيوانات الرعي التي كانت عماد اقتصاد تلك الأيام ، تركها رجال تلك الحقبة التاريخية شاهدا على حضارتهم ووجودهم المؤثر في تلك المناطق ، ولم ينسوا أن يتركوا بعضا من أدوات الحرب والمعيشة التي كانوا يستخدمونها .

لم يستغرف مكوثنا في تلك المنطقة ” فيا ” كثيرا من الوقت ، وتركنا تلك النقوش القليلة شاخصة لنتجه إلى أعماق الصحراء حيث سلسلة جبال ” آنيدي ” .

في تلك المنطقة ” آنيدي ” التي تبعد 1300 كم شمال العاصمة إنجمينا تصل درجات الحرارة في هذا الوقت الى حوالي 45 درجة مئوية إلا أن الله حباها بالأمطار الغزيرة الموسمية التي جعلت منها نهرا من الخضرة وسط الصحراء القاحلة ، في مشهد قلما تجد له مثيلا في العالم ، حيث أنتج المطروما نشأ  بسبب من مجتمعات حياة برية فريدة رشحتها لأن تحتفظ بلقب ” حدائق الصحراء ” ، حيث يوجد بالمنطقة أكبر احتياطيات الحيوان في القارة الإفريقية ، ويوجد الغزال البري بوفرة بالإضافة إلى الإبل والأغنام والقرود.

وعلى تخوم “أنيدي ” بعيدا عن تلك الواحة الخضراء التي وضعتها اليونسكو كأحد معالم التراث الإنساني باعتبارها مناطقة نادرة الخصوصية ، تقف سلاسل الجبال بكهوفها شامخة تحوي في جنباتها نقوشا فريدة ، تصف حياة عاشها أجدادنا ومعارك خاضوها للبقاء على قيد الحياة ، سواء مع البشر أو الحيوانات البرية التي كانت مصدر خطر لهم ، حيث أن تلك المناطق التي كانت يوما مقرا وسكنا لحياة يانعة أنتجت حضارة بشرية غير مكتشفة حتى الآن ، لا توجد بها أي حياة ، فمنذ آلاف السنين وتلك الجبال لا شجر بها ولا بشر ، فقط ينطق الحجر صارخا يشكو العزلة والغربة.

بعد أن أكملنا زيارتنا لمنطقة ” آنيدي” واصلنا السفر عبر الصحراء الكبرى لمسافة تبلغ حوالي 700 كم متجهين إلى المخزن الأكبر للنقوش والآثار الفرعونية بمنطقة ” تيبستي” ، وتجولنا عبر مجموعة من الكهوف لنحصر حوالي 500 نقش وأثر تحكي حياة من عاشوا في تلك الفترة ، وتركوا رسومهم بألوانها التي مازالت تحتفظ بزهوتها حتى اليوم ، يبرز فيها اللون الأحمر والأسود والأصفر بقوة ، في لوحة جمالية كأن الجبال هي التي كونتها ، تقول ” كانت توجد هنا حضارة” ، ربما غاب عنها البشر ، لكنه ترك الحجر ليحكي الحكاية.

وأهم ما يتبادر إلى الأذهان خلال تلك الرحلة هو ضرورة أن يكون لنا بعثات أثرية وخبراء في هذا التراث وفقا للتوجه الكبير الذي يقوده الرئيس عبد الفتاح السيسي نحو إفريقيا لأن ذلك كفيل بأن يعيدنا إلى أرض الأجداد ، لتبدأ قصة وحكاية جديدة ، ونؤسس لنمط جديد من الحضارة ، نستبدل فيه البشر مكان الحجر والتكنولوجيا مكان الرعي ، ونعيد إنتاج الحضارة الزراعية التي أسسها الفراعنة في تلك المناطق مستفيدين من نعم الطبيعة.

وبعد ثلاثة أيام استغرقتها رحلة الاكتشاف ، عبرنا الطريق مرة أخرى للعودة بالسيارة رباعية الدفع ، بصحبة دليل الصحراء ، الذي يمثل أهم عوامل الاستمرار على قيد الحياة ، لأن الدخول إلى أحد الدروب الخطأ قد يكلف الانسان حياته بعد رحلة من التيه داخل ممرات تلك الصحراء مترامية الاطراف التي يطلق عليها التشاديون ” الصحراء الممنوعة ، فلا يوجد أي مصدر للحياة خارج نطاق الواحات المتناثرة في مسافة ال 2000 كيلو متر ، ولا طريق للعودة سوى الطريق الذي يرسمه لك الدليل الصحراوي المرافق.

 

ربما يخفف وطأة الرحلة تلك الوجوه الطيبة التي تتخفى خلف اللثام الواقي من وهج الشمس الحارقة ، ففي تلك المناطق تسكن القبائل الصحراوية ومنها ” التبو” ، وهم بدو رحل يعيشون على الرعي ، ويتنقلون بمواشيهم عبر تشاد وليبيا والنيجر، بالإضافة إلى قبائل الزغاوة ومعظمهم يدينون بالإسلام ويتحدثون لغة تعرف بلغة ” القرعان” .

ورغم قسوة الحياة في تلك الصحراء القاحلة التي رسمت أجساما نحيلة فارعة الطول ، فإن تريبهم بالضيوف والكرم الذي يستقبلونك به ، وتلك الابتسامة التي لا يظهر غيرها من لثامهم ، ربما تعطي لتلك الرحلة الخطرة طعما آخر ، وتبقى شاهدة على أن الخير والسلام يمكن أن يحل أينما حل الإنسان ، وأن هذه الشعوب تحتاج منا الكثير ، وأن هناك مسئولية أخلاقية تطالبنا بالعودة إلى الجذور لنكمل طريق الحضارة الذي بدأه أجدادنا الفراعنة داخل صحراء إفريقيا، وتركوا لنا شواهد لمجد وحضور يمكن أن يعود بالوقوف إلى جانب تلك البلاد والمشاركة في تنميتها ورسم الطريق نحو تطورها ، بعيدا عن مطامع المستعمرين الذين كرسوا منطق التخلف والحياة البدائية حتى لا تنهض الشعوب الإفريقية.

(بوابة الاهرام)

مقالات ذات صلة

إغلاق
إغلاق