منوعات
تشاد: حصدُ الرماد
صودرت على المطلوب البلدان الأفريقية المستقلة حديثاً منتصف القرن الـ 20 لاستقطابات عربية متضاربة يمكننا اختصارها في ثلاثة: ـ القومية العروبية المتوهمة بعالم عدم الانحياز (مصر الناصرية) بعد حرب السويس 1956 حتي الهزيمة المصرية الساحقة أمام إسرائيل 1967، ـ الإسلامية البترولية (السعودية وتابعاتها) بعد الحرب العربية ـ الإسرائيلية 1973 وصعود أسعار النفط، حتى مآلات الإسلاموية الراديكالية: بزوغ شيعية الإسلام الإيراني، وسنية الإرهاب الأفغاني وتفرعاته الإسلاموية، ـ والراديكالية العالمثالثية (الأفريقية الجزائرية) من نموذج مصنع أفريقيا حتى السقوط في الحرب الأهلية بين الإسلاميين والعسكر في العشرية السوداء 1991 ـ 2002.
ليبيا التي كان لها نفوذ ديني وجهادي في السودان الغربي بعد الانقلاب العسكري 1969 على الملكية (السنوسية) تقاطع توجهها نحو أفريقيا مع هذه الاستقطابات العربية الثلاثة الكبرى. الإنقلابيون من صغار الضباط في ليبيا استلهموا طرح مصر الناصرية لمبدأ الدوائر الثلاث الحافة بالقومية العربية فتكون أفريقيا الدائرة الثانية، مما مثل تحويراً، بل قطعاً، للعلاقة التاريخية بين ليبيا وجارتها تشاد منذ القرن 18 بابها على أفريقيا تجارة قوافل، ودعوة سنوسية، ورباط الجهاد ضد الاستعمارين الفرنسي والإيطالي.
تتابع منذ يوليو 2016 مساعي تشاد الفعلية في الخروج من المصادرة الليبية لعلاقتها مع إسرائيل، فقد استضافت آنجامينا، دوري جولد الذي كان مديراً لوزارة الخارجية الإسرائيلية حيث أجريت معه مباحثات بشأن تحسين العلاقات الثنائية. وصرّح جولد للإذاعة الإسرائيلية بأن مضيفيه التشاديين أخبروه آسفين أنهم قطعوا العلاقات مع إسرائيل قبل 44 عاماً تحت ضغط ليبيا وأن السبب زال بالإطاحة بدكتاتورها السابق في ثورة 2011 الشعبية.
منذ خريف 1980 فرضت عليّ وظيفتي، ثم بعدها اهتمامي أن أُتابع بتدقيق تاريخ العلاقة الملتبسة بين ليبيا وتشاد. فمُذ كنت مديراً في الإعلام الليبي، كلفتُ نفسي بإعداد ملفات استعلامتية عن القضية التشادية التي توّرطت فيها ليبيا عسكرياً في حربٍ مفارقتها غير الأخلاقية أنها غير معلنة ليبياً حتى نهايتها بمعركة معطن السارة في الأراضي الليبية1987ونتيجتها هزيمة ليبيا بتكلفة بشرية باهظة بمقتل 1713 عسكرياً ليبيا، و أسر 300 آخرين، وضياع المئات في الصحراء.
طوال الحقبة المنوه إليها آنفاً يبدو للملاحظ السياسي أن الصراع التشادي ظل تشادياً طوال العقود الأربعة، وتدخل العامل الليبي فيه عسكرياً لم يخرجه عن حلقة الحرب الأهلية التي تتداخل فيها الانقسامية: الإثنية والقبائلية والدينية، وفي الذروة تقاطع مع مصالح مستعمرة القارّة فرنسا والمصالح المستجدّة للولايات المتحدة في أفريقيا. ولكنه بقي منضبطاً بما لايخرق التوازنات الأفريقية ـ الأفريقية.
في العقدين اللاحقين للهزيمة الليبية اشتغل المعامل الليبي بآلية التلاعب بين الانشقاقات واستثمار المعارضات. وبناءً على ذلك يبدو أن زوال المانع الليبي 2011 لإعادة العلاقة بين تشاد وإسرائيل ليس هو السبب الجوهري كما هو مطروح في الإعلام. فالرئيس دّبي الذي يمسك بمقاليد السلطة في تشاد منذ قرابة ثلاثة عقود، وشهد نظامه هزات عميقة جراء سلسلة من المحاولات الانقلابية، وتتهمه المعارضة السياسية بالاستبداد والفساد والتشبث بالسلطة بل مساعيه لتوريثها لابنه الثلاثيني؛ بات مؤخرا يركن للخارج كثيرا بغية إضفاء الشرعية على نظامه، وذلك بتقديم نفسه بوصفه الرجل الذي ضحى جيشه كثيرا في جهود الحرب على الإرهاب بالمنطقة.
فتصاعد مدّ الإرهاب الإسلامي هو الذي ألجأ النظام التشادي العسكري إلى الدخول في الجبهات الثلاث: الأفريقية ضد بوكو حرام بالمشاركة مع نيجيريا وأفريقيا الوسطى، والعربية ضد القاعدة وامتدادها داعش بالانخراط في القوة العسكرية الممثلّة في القوات المشتركة لدول الساحل،”FC-J5S” التي تم نشرها شمال مالي لمحاربة “التنظيمات الإرهابية” بالمنطقة، وتشمل هذه القوة: موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو. المفارقة أن الجبهة الحدودية الليبية، هي الجبهة النافلة دون الجبهتين، فالشراذم التشادية المعارضة، تُستدرج للانهماك كمرتزقة مقابل المال في النزاع بين السلطات الليبية المتنافسة، وشبكات التهريب،لاتهمها السلطة ولاالسياسة، ونشاطها يخرج من تشاد للإضرار بليبيا وبأوروبا المتوسطية. وعدم نجاح تنظيم القاعدة والتنظيم المنافس له داعش عامي 16 ـ 2017 في تأسيس إمارتين لهما في ليبيا، استحالا أن يكونا خطراَ مرتدّاً على تشاد.
الزيارة التشادية لإسرائيل ومارشح عنها من اتفاقاتن مصرّحا ومُتكها بها، تأتي في سياق يخرج ليبيا نهائيا من فرضية أن تعود يوما ما على تشاد بالخطر الذي كانته في حقبتها الدكتاتورية طوال أربعة عقود. وهذا ماعكسته الأخبار عن لقاء الرئيس التشادي برئيس المجلس الرئاسي الليبي في 26 يوليو 2018 الذي أكّد على التوافق الدائم بينهما في تقييم مجريات الأمور، منوّها بأهمية دور تشاد في دعم الاستقرار بليبيا، متطلعاً إلى تطوير التعاون بين البلدين. أما بالنسبة لقائد مسمّى الجيش في الشرق الليبي الذي لايحوز صفة رسمية ليبية فهو مستقل عن البرلمان الذي عينه وغير منضوٍ بمثابة وزير دفاع حتى في الحكومة المؤقتة غير المعترف بها دولياً فإنه قام بزيارتين في غضون شهرين آخرها في 18أكتوبر 2018 قبيل الزيارة الإسرائيلية دون تسريب أي معلومات حول اللقائين. ماصدر فقط استنكار فصائل مسلحة تشادية معارضة أبرزها “المجلس القيادي العسكري لإنقاذ الجمهورية” الذي شنّ انطلاقا من ليبيا والعودة لقاعدته في الجنوب الليبي هجوما على بلدة كوري بوغري في منطقة تيبستي في أقصى شمال تشاد. الفصيل اتهم أنجامينا بـ ”استخدام” حليفها قائد مُسمى الجيش الليبي لقمع حركات تمرد عند الحدود التشادية. اللافت في الاتهام التجاهل التام لعلاقة القائد الليبي بالهزيمة الكاسحة للنظام الليبي السابق الذي قاد جيشه والتي كان الرئيس التشادي الحالي أحد القادة الذين ألحقوها به في حربه مع التشاد.
السودان الذي أنضجته للاعتدال تأثيرات السعودية ودولة الإمارات، انعقد فيه بـ29 نوفمبر 2018 على وقع الزيارة الإسرائيلية، الاجتماع الوزاري الثاني عشر لآلية دول جوار ليبيا، الذي حضره فقط بصفته وزير الخارجية المصري وحضرته ليبيا ممثلة بالوزير المفوض لخارجية حكومة التوافق التي لاتُسبغ سلطتها على كل ليبيا. الأغرب أن النيجر مثلها قنصلها وتشاد سفيرها في الخرطوم ، ولم تكن إعادة العلاقات التشادية الإسرائيلية معلنة في برنامج المحادثاث.
لقد تتبعتُ المواقع الصحفية والإعلامية العربية الأساسية التي أتابعها بشكل يومي، علّها تتناول الزيارة بالإضاءة فلم أجد إلا مقالة في موقع قناة الجزيرة من عنوانها:هرولة الأفارقة للتطبيع مع إسرائيل.. فتّش عن الرياض وأبو ظبي” 2018/11/28 يُشتم منه نفس المزايدة والنزاعية الخليجية ـ الخليجية التي لاتضع في حسبانها لامصالحها ولامصالح ليبيا ولا أفريقيا الإسلامية. فنتجاوزها إلى مقالة هيوم إسرائيل التي تعكس توجهات الاستراتيجية الإسرائيلية القادمة في أفريقيا الإسلامية المدفوعة أمريكيا، والمقبولة أوروبيا، والمموّلة بنفط بلدان الخليج، والمنفذة بالتنسيق العسكري مع دكتاتوري تشاد والسودان.هي الرؤية الموضوعيةالتي ترسم بها إسرائيل سياساتها التي تنفذ دائما لتهزمهم مرّات عسكرياً وتخترقهم أمنياً وتملي سياساتها على الأنظمة العربية الحاكمة.